تجربة مروان البرغوثي- أسر، تعذيب، وإرادة لا تنكسر من أجل فلسطين

المؤلف: د. سليمان صالح10.31.2025
تجربة مروان البرغوثي- أسر، تعذيب، وإرادة لا تنكسر من أجل فلسطين

روى القائد الفلسطيني البارز في حركة فتح، مروان البرغوثي، تفاصيل تجربته المؤلمة في غرف التحقيق الإسرائيلية، وما تعرض له من تعذيب وحشي طيلة أشهر عديدة، قبل أن يختفي خلف أسوار السجن، كما هو حال الآلاف من أبناء فلسطين.

جيل كامل أو يزيد ربما لا يعرف الكثير عن مروان البرغوثي، ذلك المناضل الذي كان يمثل في يوم من الأيام أمل الفلسطينيين، ليكون من قادة حركة فتح بعد رحيل الشهيد ياسر عرفات – رحمه الله -، لكن القدر شاء له أن يتجرع كأس الابتلاء، وأن يذوق مرارة الأسر الذي يقبع فيه منذ ما يزيد على 22 عامًا، وأن يعاني مجددًا من صنوف التعذيب التي وثقها بقلمه في كتاب نُشر عام 2011 بعنوان "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي".

تبدأ رحلة العذاب في غرف التحقيق بسجن المسكوبية، الذي يطلق عليه السجناء اسم "المسلخ" لما يشتهر به من قسوة ووحشية، وذلك في منتصف شهر أبريل/نيسان من عام 2002، في أوج الانتفاضة الثانية التي كان البرغوثي أحد أبرز رموزها. كان اعتقاله بمثابة غنيمة ثمينة لقوات الاحتلال، ولذلك توافد ضباط الشاباك إلى غرفة التحقيق في أجواء ابتهاج، معتقدين أن اعتقاله يعني نهاية الانتفاضة.

قال لابنه ذات يوم: "لطالما كان حُلمي، منذ اعتقالي الأول قبل ثلاثة عقود، ألا أرى ابني يومًا في السجن، وأن نتمكن نحن وجيلنا من إنهاء الاحتلال، وتحقيق الحرية والاستقلال، وبناء الدولة التي ينعم فيها أولادنا بحياة حرة وكريمة".

من بين الذين دخلوا عليه محققٌ وقح ذكره بنفسه، فقد شارك في تعذيبه عام 1978، عندما كان البرغوثي طالبًا في المرحلة الثانوية، وفي ذلك الوقت صعقه بالكهرباء في أعضائه الحساسة، ثم همس في أذنه بعد أن أفاق من غيبوبته التي أصابته بسبب شدة الألم قائلًا: إن هذه الصعقة ستحرمه من إنجاب أبناء يحملون صفاته. ثم ها هو اليوم يدخل عليه مرة أخرى بعد أن أصبح مسؤولًا كبيرًا ليبلغه بأنه لا يفترض أن يكون على قيد الحياة، وأن هذه هي نهايته المحتومة، حيث سيقضي ما تبقى من عمره خلف القضبان.

تذكر البرغوثي حينها أن نبوءة المحقق الأولى قد باءت بالفشل، إذ لم يتمكنوا من حرمانه من الإنجاب، فقد أصبح أبًا للقسام ورُبى وعرب وشرف، فما الذي يضمن ألا تخيب نبوءته الثانية، خاصةً في ظل نضال مستمر من أجل الحرية يخوضه الشعب الفلسطيني الأبي؟ تذكر هذا الأمر فتحدّاه بشجاعة، ووعده بأن تستمرّ الانتفاضة حتى يرتفع علم النصر خفاقًا في سماء القدس، عاصمة فلسطين الأبدية.

يتذكر البرغوثي ألوانًا قاسية من التعذيب عاشها على مدار شهور طويلة، وقد ساق تفاصيلها المؤلمة في كتابه، بدءًا من تناوب ثلاثين ضابطًا عليه ليلًا ونهارًا، وحرمانه من النوم، ولو للحظة قصيرة، لأيام متتالية، وتقييده لساعات طويلة ورأسه مغطى بكيس كريه الرائحة، وتسليط الأضواء الكاشفة على عينيه مباشرة، وإجلاسه على كرسي خاص بالتعذيب في الوضعية التي يطلقون عليها اسم "كسر الظهر".

قال مروان للمحقق بغضب: "إنني أفضّل الموت بشرف على أن أعيش ذليلًا تحت نير احتلالكم، وأفتخر بالانتفاضة العظيمة التي لن تتوقف إلا برفع راية النصر في مدينة القدس، عاصمة فلسطين الخالدة". وفي مواجهة هذا المناضل المقدام، لجأ المحقق مرة أخرى إلى أساليبه المعهودة في التعذيب الجسدي؛ وجولات التحقيق التي استمرت أسابيع طوال، مع التجويع الشديد، وفي مواجهة هذا الذي أسماه "الموت البطيء" لم يكن يجد سوى التضرع إلى الله عز وجل أن يمنحه الصبر والعزيمة والثبات ليحافظ على تماسكه.

وقد شنوا ضده حربًا نفسية شرسة، تمثلت في الشتائم والإهانات البذيئة التي كانوا يوجهونها إليه للنيل من كرامته وكرامة أهله، فكان يشعر كما يقول بغضب عارم وثورة في صدره ورأسه، ثم يذكّر نفسه بأن المحقق لا يستهدفه شخصيًا بهذه الإساءات، بل يستهدف الحالة النضالية الوطنية التي يمثلها بكل فخر واعتزاز.

وفي محاولة يائسة لكسر إرادته الصلبة، تحدثوا معه طويلًا عن التفاوت الكبير في موازين القوى، وأن هؤلاء المنتفضين إنما يحاربون دولة تغلبت على أقوى الجيوش العربية، وتمتلك أسلحة فتاكة تمكنها من هزيمتهم مجددًا. ثم أخذوا يحدثونه عن خيانة رفاقه له. قالوا له: السلطة الفلسطينية غارقة في مستنقع الفساد، ومسؤولوها تحولوا إلى تجار أثرياء وأصحاب ملايين، وقادتها لا يريدون أن يروا مروان البرغوثي حرًا، بل يتمنون أن يموت في السجن، وأن بعضهم تآمروا عليه وكادوا له ليتخلصوا منه، وها هو قد ضاع مستقبله إلى الأبد، وسيموت في السجن، فهل كانت لتضحياته من جدوى؟!

أدرك بذكائه الفطري أنهم يريدون النيل من عزيمته وإصابته بالإحباط واليأس، ودفعه إلى البحث عن خلاصه الفردي، فعاند بشدة وقاوم ببسالة.

قالوا له أيضًا بوقاحة: العرب مجرد أصفار في هذا الكون الفسيح، يعانون من تخلف عقلي وفكري، والفلسطينيون عرب فاشلون كغيرهم، ولا حق لهم في هذه الأرض المقدسة، ثم عرضوا له أقوال "العقلاء" من العرب الذين يتحدثون هنا وهناك عن أضرار الانتفاضة والمقاومة، وعدم جدوى مقاومة إسرائيل، واتهام هؤلاء لمروان بأنه المسؤول الأول عما أسموه بكارثة الانتفاضة.

لم تكن الساعات القليلة التي يعيدونه فيها إلى زنزانته القذرة المظلمة فسحة للراحة والاستجمام كذلك، فهناك كانوا يرسلون إليه الجاسوس تلو الآخر في صورة أسير يتحدث بلسان المقاومة، ويحاول أن يستدرجه ليقول شيئًا يدينه، وعند المحاكمة ظهر هؤلاء الخونة على منصة الشهود ضده، ولكنّ أحدًا منهم لم يتمكن من انتزاع أي معلومة تدينه بما يشفي غليلهم.

كانوا قد سألوه مرارًا وتكرارًا عن سبب تسميته لابنه باسم "القسام"، وهل هو تخليد لذكرى الشيخ عز الدين القسام؟ أم للكتائب المسلحة التي أسستها حركة حماس؟ وبعد مرور عام على اعتقاله، قاموا بأسر ابنه "القسام" وهو دون الثامنة عشرة ربيعًا، فكتب له رسالة يثبته فيها في مواجهة محنته ويقول له إنه سماه "القسام" تقديرًا وإجلالًا لذلك الشيخ العربي السوري الذي قاد النضال ببسالة لتحرير فلسطين فاستشهد فيها، وأن علينا أن نخلّد الثورة بتخليد رموزنا الثورية فنمنح أبناءَنا أسماءَهم المباركة.

قال لابنه أيضًا بحسرة وأسى: "لطالما كان حُلمي، منذ اعتقالي الأول قبل ثلاثة عقود، ألا أرى ابني يومًا في السجن، وأن نتمكن نحن وجيلنا من إنهاء هذا الاحتلال البغيض، وتحقيق الحرية والاستقلال المنشود، وبناء الدولة التي ينعم فيها أولادنا بحياة حرة كريمة، وألا يعيشوا العذاب والمعاناة اللذين عانيناهما على مر السنين الطويلة.. لكن ما كنت أخشاه قد وقع الآن، وها هو القسام ينضم إلى والده في غياهب الاعتقال، ولم يكمل بعد سن الثامنة عشرة".

في ختام التحقيق، وجهوا إليه 52 تهمة باطلة، منها تأسيس "كتائب شهداء الأقصى"، وحكمت عليه المحكمة الظالمة -التي رفض الاعتراف بها- بالسجن لمدة 45 عامًا.. وطالبت ممثلة النيابة بإضافة 26 عامًا أخرى، فوعدت المحكمة بالنظر في ذلك بعد انتهاء المحكومية الأولى. فردّ البرغوثي شامخًا: "إنكم لا تختلفون قيد أنملة عن طياري الأباتشي الذين يغتالون أبناء شعبي ليل نهار بدم بارد، فأنتم قتلة مجرمون تشاركون في المجازر والجرائم، وتقدّمون الغطاء القانوني والقضائي للعدوان والاحتلال الغاشم الذي يتعرض له شعبنا الصامد".

وأضاف بقوة وإصرار: "لا يهمني إطلاقًا أن أفقد حريتي في سبيل حرية شعبي العظيم، وإن نهاية الاحتلال باتت وشيكة، ولن تجدي نفعًا سياسة القوة والتدمير، ولن تنال أبدًا من صمود وصلابة وإرادة شعبنا الجبار".

البرغوثي اختار لأبنائه الأربعة أسماء ذات دلالة عميقة تعبّر عما يعتزّ به في حياته، فمنهم "القسام" الذي استشهد في سبيل القضية، والـ"عرب" التي يفتخر بالانتماء إليها، و"ربى" فلسطين التي يتوق إلى تحريرها، والــ"شرف" الذي يعتبره صفة لصيقة بالأحرار أصحاب الكرامة والعزة.

يقبع هذا البطل الأسطوري الذي اعتبروه أحد قادة الانتفاضة الثانية في زنزانته منذ 22 عامًا، لكن النضال لم ينتهِ أبدًا، بل واصل نموَّه وازدهاره وصولًا إلى هذا الطوفان الهادر الذي اجتاح إسرائيل قبل عدة شهور.. سيستمر النضال بكل قوة وعزم، ويستحق رواده وقادته الأمجاد ممن غيّبهم الموت أو الأسر أن نذكرهم ونعلي من شأنهم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة